إعارة الكتب وإهداؤها لطف وإحسان من مالكها، فاقتضت العادة قبولها بالايجاب والشكر والإمتنان من الطرف المهدى اليه او المستعير. وقد تكون إعارة الكتب واجباً على من بعهدته الكتب حين يكون موظفاً لدى الدولة أو أيّة هيأة يحصل منها الموظف أجراً.
«إن رسالة المكتبة الأساسية هي توفير المواد الثقافية اولاً، ثم تنظيمها وتيسيرها للقراء والمنتفعين»والواجب على موظف المكتبة الإخلاص في عمله والنصح لمراجعيه، كما ان على المستعير الإستفادة من الكتاب باقصر وقت ليتيح لغيره الإستفادة منه، وللإستعارة آداب تراعى وفقاً للمصلحة العامة. وقد كان
الحرص على الكتب شديداً في المكتبات الآشورية «وقد يضيف قَيِّم المكتبة امعاناً في المحافظة على تلك الرُّقَم بعض اللعنات على من يتأخر في إعادة الرُّقَم المعارة». كما يوصي المعتزون بالكتب والمهتمون بها بوصايا إمعاناً منهم في الحفاظ عليها. ومن هذه الوصايا «أيها القارىء الصديق إسحب اصابعك واحذر ان تفسد كتابة هذه الصفحات فأن الذي لا يشتغل بنسخ الكتب لا يعرف الجهد الذي نبذله في هذا السبيل، إن النساخ يرحب بآخر سطر في المخطوط ويطرب لرؤيته كما يطرب الملاح لرؤية الميناء فأن النساخ يقبض على القلم بثلاثة أصابع ولكن جسمه يشقى بأجمعه في هذه المهمة».
وجاء في وصية أُخرى تأكيداً لما في سابقتها من التحذير وبيان حال الناسخ: تحني الظهر وتظلم البصر وتكسر المعدة والاضلاع فصَلِّ إذن ايها الأخ من أجل الفقير راؤول عبد الله الذي كتبه كله بيده في دير سنت أنيان».
وفي العصر العباسي فقد أتيح للمصلين في المساجد ان يستفيدوا من مجاميع الكتب الموجودة مقابل ايداع شيء كخاتم ذهبي مثلاً، كما انه من الصعب إعارة المخطوط لشخص ما إلا اذا كان معروفاً لدى خازن الكتب او أنه قدم بصحبة معروف لديه.
اما المكتبات العامة الكبيرة فتفتح أبوابها للجميع بدون تمييز ونذكر بعض المصادر بهذا الشأن ان المجال كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء للتفرج على الكتب واستعارتها.
ولم تعرف الجامعات الأوروبية (اوكسفورد وكمبرج) نظام المكتبات إلا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين حتى أن هذا العصر يسمى في اوروبا (عصر انشاء المكتبات) وكانت الكتب في المكتبات الاوربية لا يسمح للطلاب أوّل الأمر بالاطلاع عليها. وكانت المخطوطات في بعض الكنائس والمكتبات تثبت بسلسلة كما تبين من بعض المخطوطات التي وصلت الينا وفيها الحلقات التي كانت تمر بها السلاسل المثبتة بالأدراج. وكان الغرض من تثبيتها في تلك السلاسل حمايتها من اللصوص مع تمكين الجمهور من الإنتفاع بها «ورغم حرص القيمين على المكتبات في الإحتفاظ بمجموعاتهم كاملة إلا ان كثيراً من الكتب لم تجد طريقها ثانيةً الى المكتبة». وأعمال كهذه تؤدي بالبعض الى التشدد في الإحتفاظ بكتبهم، وإطلاق الشتائم على من لم يعيدها كما ورد عن «إبن الصارم المتوفى سنة 1556م إن إستعارة كتاب مني وعدم إعادته إلي إنما هو عمل غير نبيل بل وإن القائم به لتافه وخائن»، إن الاستعارة الكتب وعدم إرجاعها لأصحابها قد قطع سبيل المعروف على كثيرين مما حدى بأحدهم ان يقول: «لا تُعر كتاباً إنما قدم عذراً لذلك وأكذب من أجله فأن ذلك هو سبيل التصّرف الحكيم في مثل هذه الاحوال وإذا لم تتعظ
بكلماتي فإنك ولا ريب ستفقد ذلك الكتاب الى الأبد»، وأشد نكيراً من ذلك ماسمعته من معتز بكتبه (المعير أحمق) وحدثني آخر انه أمضى عدة أيام يمحو هوامش وتعليقات كتبها مستعير على كتاب يعتز به. لذا تجب العناية بالكتاب المستعار وعدم العبث به او تأخيره وقتاً يحرم غيره من الإنتفاع به وقد كتب معتزُّ بكتبه لمستعير إستعار منه كتاباً فأبطأ عليه:
ماذا جناه كتابي فاستحق به***سجناً طويلاً وتغييباً عن الناس
أطلقه كي نسأله عما حل به***في عقر دارك من ضر ومن بأس
«ولم يغفل عبد الباسط بن موسى بن محمد العلموي وهو من علماء القرن العاشر الهجري عن ذكر آداب إستعمال الكتاب وفقاً للقاعدة الشرعية. ومن ذلك أنه لا يجوز للمرء ان يصلح كتاب غيره بغير إذن صاحبه، وإذا نسخ منه أو طالعه فلا يضعه مفروشاً على الأرض ولا يطوي حاشية الورقة وزاويتها كما يفعله كثير من الجهلة».
ويقطع المؤرخ البصري عبد القادر باش أعيان برأيه الرافض لأعارة أي من كتبه إذ علق لافتةً كتب عليها بقوله الفصل:
ألا يا مستعير الكتب إليك عني***فأن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتاب***وهل أبصرت محبوباً يعار
ومن الناس من يتخذ الإستعارة وسيلة لسرقة نفائس الكتب إذ إستحوذ عبد الإله الوصي على عرش العراق في العهد الملكي سنة 1955م على نسختين خطيتين من القرآن الكريم دفعت مديرية الآثار ألفي دينار لقاء الحصول عليها، إذ إستعمارهما من مكتبة المتحف ولم يرجعها فجرت إتصالات بين المسؤولين في مديرية الآثار ومجلس الوزراء الذي أحال القضية الى وزارة المالية وهذه بدورها تساءلت إذا كان مقرراً أن تهدى هاتان النسختان من القرآن الكريم الى الوصي على عرش العراق فلابد ان يسدد ثمنهما لأنه من مال الدولة! فتعقدت الأمور حتى جاء الحل بإجتماع مجلس النواب الذي قرر إهداء النسختين الى عبد الإله دون مقابل، مع إشعار بضرورة شطبهما من مخطوطات المتحف».
وفي الوقت الحاضر يصر البعض على دفع الغرامة غير آبه بحرمان رواد العلم والمعرفة من الإستفادة من تلك الكتب، وهذا تأكيداً للأنانية والشح الذي تتصف به بعض النفوس كما ان قبول المشرفين على المكتبات أمثال هذه المعاملات مخالف للمصلحة العامة إذ لا ثمن للكتاب وحبذا لو ألغي هذا النوع من التعامل. وفي الوقت الذي نشجب فيه أنانية نفر من الناس، نكبر في الأديب البحريني الشاعر إبراهيم العريض شهامته وكرمه «اذ تبرع بمكتبته الخاصة التي بلغت عشرين ألف كتاب الى نادي العروبة في المنامة. وقد قرر النادي تخصيص جناح خاص لها». وهذا مثل فريد في الأريحية ضربه الشاعر البحريني فكان قدوةً قل نظيره
ويصح فيه قول «أبي الكرم خميس بن علي الجوزي»:
كتبي لأهل العلم مبذولة***أيديهم مثل يدي فيها
متى أرادوها بلا مثّه***عارية فليستعيروها
حاشاي ان امنعها عنهم***كلا، كما غيري يخفيها
أعارنا أشياخنا كتبهم***وسنة الأشياخ نمضيها
«وقدم السيد حسين أحمد الحكيم من كركوك(140) مائة وأربعين مخطوطة الى المكتبة العامة» والتبرع بالكتب واهداؤها للمكتبات سنة حسنة «إذ كان من عادة الخلفاء والأمراء والنبلاء واهل المعرفة ان يوقفوا مجموعات كتبهم في أواخر أيّامهم على تلك المكتبات».
وفي هذا العصر حيث يسرت المطابع نشر الكتب فقد إعتاد المؤلفون إهداء نسخ من كتبهم التي يؤلفونها الى اساتذتهم ومعارفهم المهتمين بالعلم والمعرفة، للأفادة والتعريف.
الكتاب في الأدب العربي
نلاحظ البعض ممن يعتزون بكتبهم يكتبون قوله تعالى: «فيها كتب قيمة» على واجهات خزانة كتبهم. «ولما أُنشئت المكتب الأولى في مصر وضعت تحت حماية الآلهة (على حد زعمهم) وكتب على بابها (هنا غذاء النفوس وطب العقول). وقد كثرت الأقوال في الكتاب من تحبيب الى قراءته وحث عليها ووصف ما فيه وتثمينه ودعوة لإحترامه وحفظه والإعتزاز به والإستئناس والتلذذ به الى التأسف على فقده والحث على إعارته أو منعها «فقالوا في سبب تسميته: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع الحروف فيه كما سمّي العسكر كتيبة لاجتماع الجند فيه». وقد أفاض العلماء والشعراء بوصف الكتاب ومنافعها نظماً ونثراً.
1 ـ قال الحكيم الفارسي بزرجمهر: الكتاب أصوات الحكم تنشق عن جواهر الكلم; وقيل له ما بلغ بكتبك؟ قال: هي إن سررت لذتي وإن إهتممت سلوتي.
2 ـ قال إبن الطقطقي في كتابه الفخري: قالوا في فضيلة الكتب: إن الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق ولا يجلّ ولا يعاتبك إذ جفوته، ولا يفشي سرك.
3 ـ قال الجاحـظ: الكتاب وعاء ملىء علماً، وظرف حُشي ظرفاً... وبستان يحمل في ردن، وروضة تُقل في حجر، وناطق ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء... ولا أعلم رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع ولا صاحباً اظهر كفايةً، ولا أقل جنايةً ولا أكثر أُعجوبةً وتصرفاً، ولا أقل تصلفاً وتكلفاً، ولا أزهد في جدال ولا أكف عن قتال من كتاب.
ولا أعلم قريناً أحسن موافاةً، ولا أعجل مكافاةً، ولا أحضر معونةً، ولا أخف مؤونة ولا شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمرةً، ولا أقرب مجتنىً من الكتاب... ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنة، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة،
ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، وإخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة، والامثال السائرة، والأمم البائدة، ما يجمع لك الكتاب».
4 ـ قال ابن المعتز: الكتاب والج الأبواب جريء على الحجاب مُفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم. وبه يشخص المشتاق، إذا أبعده الفراق.
وفي تأليف الكتاب «تقول هذا الكتاب نفيس جليل جامع غزير المادة جم الفوائد قريب المنال داني القطوف، سهل الإسلوب، عذب المورد، ناصع البيان واضح التعبير تدرك فوائده على غير مؤونة ولا كدّ ذهن ولا جهد فكر ولا إرهاق خاطر. وتقول: وقد تصفحت مؤلف كذا فإذا هو كتاب أنيق، حسن، فصيح الخطبة حسن الديباجة، محكم الوضع مناسب التبويب مطرد الفصول، وهو كتاب فريد في فنه مبسوط العبارة مسهب الشرح، مستوعب لأطراف الفن، قد استوعب اصول هذا العلم وأحاط بفروعه واستقصى غرائب مسائله ولم يدع آبدةً إلا قيدها ولا شاردةُ إلا ردها إليه، لم يصنف في بابه أجمع منه وقد نُزه عن التعقيد والإشكال والابهام واللبس واللغو والحشو والركاكة. وتقول: هذا مؤلف مختصر، وجيز وموجز، مدمج التأليف محكم الحدود، جزل التعبير، قد لُخصت فيه قواعد العلم أحسن تلخيص وحررت مسائله أحسن تحرير، وعليه شرح لطيف كافل بيان غامضه وإيضاح مبهمه وحل مشكله وتفصيل مجمله، وبسط موجزه وتقريب بعيده، والكشف عن دقائق أغراضه، ومكنون أسراره».
وقد أكثر شعراء العرب من نظم الشعر في المكتبات والكتب وما يتصل بها من حب وإستئناس بها وحرص عليها وحث على قراءتها، فالشاعر ابو الطيب المتنبي قد قال:
أعز مكاني في الدنيا سرج سابح***وخير جليس في الزمان كتاب
وقد أظهر أولاً حبه لظهر الفرس لأنه فارس كما بين افضل من يستأنس به وهو الكتاب.
ويكاد يشابهه في قوله الشاعر أحمد شوقي إذ يفضل الكتاب على الأصحاب فقال:
أنا من بدل بالكتب الصحبا***لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
والصواب أن يقول:
أن من بدل بالصحب كتاباً***لم أجد لي وافياً إلا بكتابا
ويكاد الأديب العالم بهاء الدين العاملي يشابه الشاعرين في الأستئناس كثيراً بالكتب حيث قال لاحد الأكابر في كتابه المفضل لديه:
جميع الكتب يدرك من قراها***ملال او فتور او سآمة
سوى هذا الكتاب فان فيه***بدائع لا تُحلَّ الى القيامة
اما إبن الجهم فيكاد يبزُّ من ذكرناهم في شغفه واستئناسه بالكتب ويمتدحها ذاكراً أفضالها:
لنا جلساء لا نمل حديثهم***ألبَّاء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم من مضى***ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤدد
فلا غيبة تخشى ولا سوء عشرة***ولا يختشى منهم لسناً ولا يدا
فأن قلت أموات فلم تبر أمرهم***وإن قلت أحياء فلست مفندا
ويؤكد إبن الجهم مديحه للكتاب بقوله:
سميرٌ إذا جالسته كان مسليا***فؤادك عما فيه من ألم الوجدِ
يفيدك علماً او يزيدك حكمة***وغير حسود او مصرُّ على حقد
ويحفظ ما استودعته غير غافل***ولا خائن عهداً على قدم العهد
زمان ربيع في الزمان بأسره***يبيحك روضاً غير ذاو ولا يجعد
أما أحمد بن رضا المالقي فيؤكد لذته بقراءة الكتب بقوله:
ليس المدامة مما استريح له***ولا مجاوبة الأوتار والنغم
وإنما لذتي كتب أطالعها***وخادمي أبداً في نُصرتي قلمي
وقال أخر في أنسه بالكتاب قاطعاً بمطالعته ليلَ الشتاء
نديمي هرتي ونديم نفسي***دفاتر لي ومعشوقي السراب
إذا ضاقت امور الدهر قلنا*** عسى يوما يكون لها انفراج
ويذكر البعض اعتزازهم وشغفهم بكتاب معين مثل بهاء الدين العاملي الذي ذكرنا قوله فيصف شاعر آخر كتاباً بأنه سرورٌ لمن يقرأُه:
كتاب في سرائره سرور***مُناجيه من الاحزان ناجي
كراح في زجاج بل كروح***سرت في جسم معتدل المزاح